شارك على لينكد ان
شارك على واتساب
شارك على تلغرام
الطباعة

بلاد المغرب في فجر التاريخ

الجزائر في فجر التاريخ:

يطرح وجود فترة فجر التاريخ في شمال إفريقيا أسئلة تتعلق بالبداية الزمنية لهذه المرحلة ونهايتها.، ذلك أنه على الرغم من وضوح البداية الزمنية لفترة ما قبل التاريخ ونهايتها المؤرخة ببداية الفترة التاريخية، فإن معظم الباحثين يتفقون على استحالة تحديد تاريخ بداية فترة فجر التاريخ في شمال إفريقيا ونهايته، وذلك نظرا للتداخل والالتباس الحاصل بين مختلف الفترات الحضارية. وعلى الرغم من المجهودات الكبيرة والمحاولات المتكررة التي قام بها الباحثون عبر مختلف المواقع الأثرية إلا أن الأسئلة المتعلقة بتاريخ بداية فجر التاريخ وتاريخ نهايته تبقى قائمة.

وإذا كانت بداية هذه الفترة  ونهايتها واضحتين على صعيد الفترات التاريخية( نهاية فترة العصر الحجري الحديث ــــــ بداية الفترة البونية)، فإن هناك تباين من حيث الزمن في دخول مختلف مناطق بلاد المغرب في الفترة التاريخية، ففي الوقت الذي دخلت فيه سواحل بلاد المغرب الفترة التاريخية بوصول الفينيقيين وبداية تأسيس القرى والمدن، فإن المناطق الداخلية لبلاد المغرب بقيت مجتمعاتها تعيش حياة ما قبل التاريخ حتى الحقبة النوميدية.

ورغم ما تتضمنه فترة فجر التاريخ ببلاد المغرب عامة والجزائر خاصة من نشاطات بشرية مست كل جوانب الحياة المادية والروحية، فإن البحوث العلمية المتعلقة بهذه المرحلة التاريخية قد اقتصرت في معظمها على دراسة المعالم الجنائزية، وسبب ذلك أمران :

أولهما: كثرة هذه المعالم وتنوع أشكالها، 

 وثانيهما: كبر حجمها، وصلابة مادة بنائها مقارنة بالمعالم الحضارية المادية الأخرى التي تزخر بها مناطق المغرب الشاسعة والمختلفة. في حين لم تحظ الآثار المعمارية الأخرى كالمساكن والفنون الصخرية والصناعات الفخارية والمعدنية والزراعية بنفس الأهمية التي حظيت بها المعالم الجنائزية.

   تكتسب هذه الشواهد الأثرية أهمية مركزية في دراسة فترة فجر التاريخ، لقد سمح التأكد من آثار هذه الفترة العمرانية وتحديدها وتأريخها تحقيق فوائد جمة، أهمها الحصول على معلومات تخص نمط عيش سكان المنطقة وطبيعة نشاطاتهم اليومية وموقع الفرد أو الجماعة داخل التراتبية الاقتصادية ووالاجتماعية والروحية وكيفية تنظيمها.

 تعددت الاجتهادات وتنوعت مجالات البحث أو الاشتغال في حقل فجر التاريخ، منها مثلا أبحاث ودراسات دوشلات (J.Dechelette) التي حظيت بشرف السبق والتقدم في تعريف فجر التاريخ، و أبحاث ودراسات م. ريجاس ( M. Reygasse) الذي أطلق على هذه الفترة مصطلح ما قبل الإسلامي ، و أبحاث ودراسات ل. بالو ( L. Balout) الذي لم يتوصل إلى تحديد مفهوم فجر التاريخ إلا في سنة 1955 ، و ب. سينتس (P. Cintas) الذي أدخل المراحل البونية في فترة فجر التاريخ، إلا أن التعريف الذي أطلقه هذا الأخير على هذه الفترة سيتعرض للانتقاد اللاذع ومحاولة التجاوز من طرف كومبس (G. Camps) 

والحقيقة أنه رغم تباين وجهات النظر بين هؤلاء الباحثين إلا أنهم كانوا يطمحون من خلال هذه المحاولات  للوصول إلى إعطاء مفهوم دقيق لفترة فجر التاريخ في شمال إفريقيا وإن اختلفت آراؤهم حولها.

  وفي ختام هذا العرض نخلص إلى أن فترة فجر التاريخ في شمال إفريقيا عموما هي مرحلة انتقالية تبدأ على الأرجح  بنهاية العصر الحجري الحديث سنة 3000 قبل الميلاد بحسب بعض الباحثين، وتنتهي بظهور الكتابة التي يعيدها بعض الدارسين إلى 1500 سنة قبل الميلاد بينما يربطها البعض الآخر بدخول الفينيقيين إلى شمال إفريقيا وتأسيسهم لأولى المدن.

 جغرافية بلاد المغرب:

  تحتل بلاد المغرب الجزء الغربي من منطقة شمال إفريقيا، تمتد حدودها من المحيط الأطلسي غربا إلى غرب نهر النيل شرقا، ومن الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط شمالا إلى الصحراء الكبرى منطقتي الطـــاسیـلي والهـــقار جنوبا. وقد شهدت بلاد المغرب حركة عمرانية كبيرة تمثلت خاصة في عمليات تعمير وبناء اتسعت لتشمل تجمعات سكانية انتشرت آثارها في كل بلاد المغرب، وعلى رأسها التجمعات البشرية المهاجرة من الجنوب أثناء العصر الحجري الحدیث فرارا من الجدب الذي تسببت فيه عملية التصحر الناجمة عن تغير الظروف المناخية، والتجمعات السكانية التي فضلت اللجوء إلى مناطق محددة من الواحات الصحراوية للاستقرار بها.

        أثبتت الأحداث التاريخية والناس الذين عاشوها أن جغرافیة منطقة بلاد المغرب أنها وقفت عائقا طبيعيا أمام سكانها، وكانت سببا في عزلتها حیث شكلت المساحة الشاسعة للصحراء جنوبا والبحر الأبيض للمتوسط شمالا عائقا في وجه التیارات الحضاریة الوافدة عبر قرون عدیدة. فكان التحدي كبيرا أمام الإنسان المغاربي، وعاملا محفزا في مواجهة الانغلاق الجغرافي الذي يعيشه. وهو الأمر الذي حثه على الابتكار والتفاعل مع البيئة المحيطة به، ودفعه لتنويع نشاطاته محليا بعيدا عن المؤثرات الخارجیة، وكان من نتائج ذلك أن عرفت البلاد حضارات أصيلة نموذجیة عبر العصور، ولنا في الحضارات العاتریة والإبيرومغربية والقفصیة وحضارة الطاسیلي أحسن مثال على ذلك. فقد كانت حضارات متميزة عن غيرها حيث طبعت بلاد المغرب بعطاءاتها وضمنت لها مكانتها بين الحضارات الإنسانیة، على الرغم من الظروف المناخية الصعبة الناتجة عن التغير المناخي بسبب الجفاف، الأمر الذي ساهم في جعل منطقة الصحراء منطقة طرد نحو مواطن أكثر ملاءمة للنشاطات البشرية المتطورة.

وهذا ما يثبت –بما لا يدع مجالا للشك- حجم الدور الذي لعبته حضارة بلاد المغرب في تنمية وتطوير الحضارة الإنسانية، وهو أمر تبرزه بوضوح الدراسات المختلفة التي أنجزها باحثون متخصصون في الآثار العائدة إلى فجر التاريخ ببلاد المغرب مثل الصناعة الحجرية والرسوم الصخرية والمقابر المتنوعة والأدوات الفخارية والمعدنية.

 مناخ شمال إفريقيا في فجر التاريخ:

إذا ما أخذنا المعطيات الواردة في الدراسات التي تناولت منطقة بلاد المغرب والصحراء بعين الاعتبار فإن الطابع المناخي الذي يسود الصحراء في وقتنا الحاضر يختلف اختلافا جذريا عن الطابع المناخي الذي عرفته المنطقة أثناء العصور الحجریة، لقد اتخذت حياة الإنسان في البيئة الصحراوية ببلاد المغرب قبل حدوث التصحر شكلا يوحي بالأمان والاستقرار وميلاد التجمعات السكانية لوفرة المياه واعتدال المناخ، ووفرة في الثروة الحيوانية وخصوبة وبعدها النباتي والزراعي. 

وإذا كان المناخ الجاف والحار كما هو عليه الحال اليوم في الصحراء يقف حاجزا طبيعيا أمام الاتصالات بين شعوب بلاد المغرب وبقية شعوب المناطق الإفريقية الأخرى ، فإنه لم يكن على هذه الشاكلة الجافة والحارة قبل ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد حيث كانت الظروف المناخية ملائمة للحياة ، وكانت تشكل همزة وصل بين شمال القارة وجنوبها وكان ذلك سببا في تنشيط التفاعل الحضاري بين التجمعات البشرية التي استقرت في بلاد المغرب والصحراء ، ولم ينقطع هذا التواصل الحضاري إلا بعد أن استفحلت فترة الجفاف التي عقّدت من سُبل التواصل بین شعوب المنطقة.

 ستعرف منطقة الصحراء بحسب المختصين ابتداءً من2500 سنة قبل الميلاد تحولات جغرافية ومناخية، قادت إلى دخول الصحراء في فترة تصحر تامة، فلازمها الجفاف وشح قوتها غذاءها ، وتسلطت حرارة الشمس على مساكن أهلها ، في حين ساد منطقة شمال إفريقيا فترة مناخية جافة نسبيا. وبحسب الباحثين فإن مناخ منطقة شمال افريقيا والصحراء في الفترة السابقة للفترة التاريخية كان مناخا باردا ورطبا أو ما اصطلح عليه بالمناخ المطير. و ذهب بعض المختصين من الجيولوجيين وعلماء ما قبل التاريخ إلى أن منطقة شمال إفريقيا والصحراء دخلت بالتدريج منذ 14.000 إلى 13.000 سنة قبل الميلاد ــــ وهي نهاية الفترة المطيرة المقابلة لفترة جليد فيرم في أوروباــــ في فترة المناخ الحالي الذي يميزه الجفاف. وقد استمر هذا الطابع المناخي خلال فترة الحضارة القفصية التي بدأت في حدود 10.000 سنة قبل الميلاد، ثم أثناء العصر النيوليتي بداية من 4.000 سنة قبل الميلاد، وقد تميز المناخ في البداية بالرطوبة الشديدة كانت فيه الغابات تغطي أجزاء كبيرة من منطقة التل والهضاب العليا، أما المناطق الصحراوية المجاورة فكانت تغطيها السفانا مشكلة بيئة مناسبة تجوبها قطعان الحمار الوحشي والجواميس ووحيد القرن. وشيئا فشيئا بدأت تشهد المنطقة ميلان المناخ الى الحرارة والجفاف مما أدي إلى انقراض الأنواع الحيوانية سالفة الذكر. وقد تزامنت الفترة السابقة التي ميزها المناخ الحار والرطب مع تلك الفترة التي عرف فيها الإنسان أقدم الصناعات الحجریة. وقد كانت المنطقة أكثر ملاءمة لاستقبال أقوام من الرحّل عمّا ھي عليها الآن، وكانت أكثر غنى بنباتاتها وحیواناتها بحیث شكلت مجالا خصبا للقنص واستئناس الحيوان وتربيته.

تفيد البقايا الأثرية التي تحتويها المواقع الأثرية المتناثرة هنا وهناك عبر كامل التراب الجزائري أن فترة فجر التاريخ تكون قد تميزت بغزارة المساهمات الجديدة في فن النحت والنقوش الصخریة وأشكال قبور دفن الموتي بمختلف أنواعها.